سورة الكهف - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


ولما ذكر تعالى تنازع أولئك الذين هداهم الله بهم، ذكر ما يأتي من إفاضة من علم قريشاً أن تسأل صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم في الفضول الذي ليس لهم إليه سبيل، ولا يظفرون فيه بدليل علماً من أعلام النبوة فقال تعالى: {سيقولون} أي أهل الكتاب ومن وافقهم في الخوض في ذلك بعد اعترافهم بما قصصت عليك من نبأهم بوعد لا خلف فيه: هم {ثلاثة} أشخاص {رابعهم كلبهم} ولا علم لهم بذلك، ولذلك أعراه عن الواو فدل إسقاطها على أنهم ليسوا ثلاثة وليس الكلب رابعاً {ويقولون} أي وسيقولون أيضاً: {خمسة سادسهم كلبهم}.
ولما تغير قولهم حسن جداً قوله تعالى: {رجماً بالغيب} أي رمياً بالأمر الغائب عنهم الذي لا اطلاع لهم عليه بوجه {ويقولون} أيضاً دليلاً على أنه لا علم لهم بذلك: {سبعة وثامنهم كلبهم} وتأخير هذا عن الرجم- وإن كان ظناً- مشعر بأنه حق، ويؤيده هذه الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل الواو حالاً عن المعرفة في نحو {إلا ولها كتاب معلوم} [الحجر: 4] فإن فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصاف الموصوف بالصفة أمر ثابت مستقر، فدلت هذه الواو على أن أهل هذا القول قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن، وفي براءة، كلام نفيس عن اتباع الوصف تارة بواو وتارة مجرداً عنها. فلما ظهر كالشمس أنه لا علم لهم بذلك كان كأنه قيل: ماذا يقال لهم؟ فقيل: {قل ربي} أي المحسن إليّ بإعلامي بأمرهم وغيره {أعلم بعدتهم} أي التي لا زيادة فيها ولا نقص، فكان كأنه قيل: قد فهم من صيغة {أعلم} أم من الخلق من يعلم أمرهم فقيل: {ما يعلمهم إلا قليل} أي من الخلق وهو مؤيد لأنهم أصحاب القول الغالب، وهو، قول ابن عباس رضي الله عنهما، وكان يقول: أنا من ذلك القليل. {فلا} أي فتسبب عن ذلك أن يقول لك على سبيل البت الداخل تحت النهي عن قفو ما ليس لك به علم: لا {تمار} أي تجادل وتراجع {فيهم} أحداً ممن يتكلم بغير ما أخبرتك به {إلا مرآء ظاهراً} أدلته، وهو ما أوحيت إليك به ولا تفعل فعلهم من الرجم بالغيب {ولا تستفت} أي تسأل سؤال مستفيد {فيهم} أي أهل الكهف {منهم} أي من الذين يدعون العلم من بني إسرائيل أو غيرهم {أحداً}.
ولما كان نهيه عن استفتائهم موجباً لقصر همته على ربه سبحانه فكان من المعلوم أنه إذا سئل عن شيء، التفتت نفسه إلى تعرفه من قبله، فربما قال لما يعلم من إحاطة علم الله سبحانه وكرمه لديه: سأخبركم به غداً، كما وقع من هذه القصص، علمه الله ما يقول في كل أمر مستقبل يعزم عليه بقوله تعالى: {ولا تقولن لشيءٍ} أي لأجل شيء من الأشياء التي يعزم عليها جليلها وحقيرها، عزمت على فعله: عزماً صادقاً من غير تردد وإن كنت عند نفسك في غاية القدرة عليه: {إني فاعل ذلك} أي الشيء وإن كان مهماً {غداً} أي فيما يستقبل في حال من الأحوال {إلا} قولاً كائناً معه {أن يشاء} في المستقبل ذلك الشيء {الله} أي مقروناً بمشيئة الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه سبحانه تعظيماً لله أن يقطع شيء دونه واعترافاً بأنه لا حول ولا قوة إلا به، ولأنه إن قيل ذلك دون استثناء فات قبل الفعل أو عاقه عنه عائق كان كذباً منفراً عن القائل.
ولما كان النسيان من شأن الإنسان وهو غير مؤاخذ به قال تعالى: {واذكر ربك} أي المحسن إليك برفع المؤاخذة حال النسيان {إذا نسيت} الاستثناء بالاستعانة والتوكل عليه وتفويض الأمر كله بأن تقول: إن شاء الله، ونحوها في أيّ وقت تذكرت؛ وأخرج الطبراني في معجمه الأوسط في ترجمة محمد بن الحارث الجبيلي- بضم الجيم وفتح الموحدة- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا بصلة اليمين. ثم عطف على ما أفهمه الكلام وهو: فقل إذا نسيت: إني فاعل ذلك غداً إن شاء الله- ونحو ذلك من التعليق بالمشيئة المؤذن بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ولا مشيئة لأحد معه قوله: {وقل عسى أن يهدين ربي} أي المحسن إليّ {لأقرب} أي الى أشد قرباً {من هذا} أي الذي عزمت على فعله ونسيت الاستثناء فيه فقضاه الله ولم يؤاخذني، أو فاتني أو تعسر عليّ لكوني لم أقرن العزم عليه بذكر الله {رشداً} أي من جهة الرشد بأن يوفقني للاستثناء فيه عند العزم عليه مع كونه أجود أثراً وأجل عنصراً فأكون كل يوم في ترق بالأفعال الصالحة في معارج القدس، وأقرب أفعل تفضيل من قرب- بضم الراء- من الشيء، لازم، لا من المكسور الراء المتعدي نحو {ولا تقربوا الزنى} [الإسراء: 32] {ولا تقربوا مال اليتيم} [الإسراء: 34] الآية، والأقرب من رشد الاستدلال بقصة أهل الكهف التي الحديث عنها على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونحو ذلك الاستدلال على وحدانية الصانع وقدرته على البعث وغيره بالأمور الكلية أو الجزئيات القريبة المتكررة، لا بهذا الأمر الجزئي النادر المتعب ونحو هذا من المعارف الإلهية.


ولما فرغ من هذه التربية في أثناء القصة وختمها بالترجية في الهداية للأرشد، وكان علم مدة لبثهم أدق وأخفى من علم عددهم، شرع في إكمالها مبيناً لهذا الأخفى، عاطفاً على قوله: {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} [الكهف: 19] أو على {فأووا إليه} الذي أرشد إلى تقديره قولهم: {فأووا إلى الكهف} كما مضى، المختوم بنشر الرحمة وتهيئة المرفق بعد قوله: {إذ أوى الفتية} المختوم بقولهم {وهيئ لنا من أمرنا رشداً} فقال بياناً لإجمال {سنين عدداً} محققاً لقوله تعالى: {قل الله أعلم بما لبثوا}: {ولبثوا في كهفهم} نياماً {ثلاث} أي مدة ثلاث {مائة سنين} شمسية بحساب اليهود الآمرين بهذا السؤال، وعبر بلفظ السنة إشارة إلى ذمها بما وقع فيها من علو أهل الكفر وطغيانهم بما أوجب خوف الصديقين وهجرتهم وإن كان وقع فيها خصب في النبات وسعة في الرزق، وذلك يدل على استغراق الكفر لمدة نومهم.
ولما كان المباشرون للسؤال هم العرب قال: {وازدادوا تسعاً} أي من السنين القمرية إذا حسب الكل بحساب القمر، لأن تفاوت ما بين السنة الشمسية والقمرية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة كما تقدم في النسيء من براءة، فإذا حسبت زيادة السني القمرية على الثلاتمائة الشمسية باعتبار نقص أيامها عنها كانت تسع سنين، وكأن مدة لبثهم كانت عند اليهود أقل من ذلك أو أكثر، فقال على طريق الجواب لسؤال من يقول: فإن قال أحد غير هذا فما يقال له؟ {قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {أعلم} منكم {بما لبثوا} ثم علل ذلك بقوله تعالى: {له} أي وحده {غيب السماوات والأرض} يعلمه كله على ما هو عليه، ولا ينسى شيئاً من الماضي ولا يعزب عنه شيء من الحاضر، ولا يعجز عن شيء من الآتي، فلا ريب فيما يخبر به.
ولما كان السمع والبصر مناطي العلم، وكان متصفاً منهما بما لا يعلمه حق علمه غيره، عجب من ذلك بقوله تعالى: {أبصر به وأسمع} ولما كان القائم بشيء قد يقوم غيره مقامه إما بقهر أو شرك، نفى ذلك فانسد باب العلم عن غيره إلا من جهته فقال تعالى: {ما لهم} أي لهؤلاء السائلين ولا المسؤولين الراجمين بالغيب من أصحاب الكهف {من دونه} وأعرق بقوله تعالى: {من ولي} يجيرهم منه أو بغير ما أخبر به {ولا يشرك} أي الله {في حكمه أحداً} فيفعل شيئاً بغير أمره أو يخبر بشيء من غير طريقه.
ولما تقرر أنه لا شك في قوله: ولا يقدر أحد أن يأتي بما يماثله فكيف بما ينافيه مع كونه مختصاً بتمام العلم وشمول القدرة، حسن تعقيبه بقوله عطفاً على {قل لله أعلم}: {واتل} أي اقرأ على وجه الملازمة {ما أوحي إليك} وبنى الفعل للمجهول لأن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو على القطع بأن الموحى إليه هو الله سبحانه وتعالى {من كتاب ربك} الذي أحسن تربيتك في قصة أهل الكهف وغيرها، على من رغب فيه غير ملتفت إلى غيره واتبعوا ما فيه واثقين بوعده ووعيده وإثباته ونفيه وعلى غيرهم.
ولما كان الحامل على الكف عن إبلاغ رسالة المرسل وجدان من ينقضها أو عمي على المرسل، قال تعالى: {لا مبدل لكلماته} فلا شك في وقوعها فلا عذر في التقصير في إبلاغها، والنسخ ليس بتبديل بهذا المعنى بل هو غاية لما كان {ولن تجد} أي بوجه من الوجوه {من دونه} أي أدنى منزلة من رتبته الشماء إلى آخر المنازل {ملتحداً} أي ملجأ ومتحيزاً تميل إليه فيمنعك منه إن قصرت في ذلك.
ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شديد الحرص على إيمانهم كثير الأسف على توليهم عنه يكاد يبخع نفسه حسرة عليهم وكانوا يقولون له إذا رأوا مثل هذا الحق الذي لا يجدون له مدفعاً: لو طردت هؤلاء الفقراء وأبعدتهم عنك مثل عمار وصهيب وبلال فإنه يؤذينا ريح جبابهم ونأنف من مجالستهم جلسنا إليك وسمعنا منك ورجونا أن نتبعك، قال يرغبه في أتباعه مزهداً فيمن عداهم كائناً من كان، معلماً أنه ليس فيهم ملجأ لمن خالف أمر الله وأنهم لا يريدون إلا تبديل كلمات الله فسيذلهم عن قريب ولا يجدون لهم ملتحداً: {واصبر نفسك} أي احبسها وثبتها في تلاوته وتبيين معانيه {مع الذين يدعون ربهم} شكراً لإحسانه، واعترافاً بامتنانه، وكنى عن المداومة بما يدل على البعث الذي كانت قصة أهل الكهف دليلاً عليه فقال تعالى: {بالغداة} أي التي الانتقال فيها من النوم إلى اليقظة كالانتقال من الموت إلى الحياة {والعشي} أي التي الانتقال فيها من اليقظة إلى النوم كالانتقال من الحياة إلى الموت؛ ثم مدحهم بقوله تعالى معللاً لدعائهم: {يريدون} أي بذلك {وجهه} لا غير ذلك في رجاء ثواب أو خوف عقاب وإن كانوا في غاية الرثاثة، وأكد ذلك بالنهي عن ضده فقال مؤكداً للمعنى لقصر الفعل وتضمينه فعلاً آخر: {ولا تعد عيناك} علواً ونبوءاً وتجاوزاً {عنهم} إلى غيرهم، أي لا تعرض عنهم، حال كونك {تريد زينة الحياة الدنيا} التي قدمنا في هذه السورة أنا زينا بها الأرض لنبلوهم بذلك، فإنهم وإن كانوا اليوم عند هؤلاء مؤخرين فهم عند الملك الأعلى مقدمون، وليكونن عن قريب- إذا بعثنا من نريد من العباد بالحياة من برزخ الجهل- في الطبقة العليا من أهل العز، وأما بعد البعث الحقيقي فلتكونن لهم مواكب يهاب الدنو منها كما كان لأهل الكهف بعد بعثهم من هذه الرقدة بعد أن كانوا في حياتهم قبلها هاربين مستخفين في غاية الخوف والذل، وأما إن عدّت العينان أحداً لما غفل عنه من الذكر، وأحل به من الشكر، فليس ذلك من النهي في شيء لأنه لم يرد به الإ الآخرة.
ولما بلغ في أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمجالسة المسلمين، نهاه عن الالتفات إلى الغافلين، وأكد الإعراض عن الناكبين فقال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا} بعظمتنا {قلبه} أي جعلناه غافلاً، لأن الفعل فيه لنا لا له {عن ذكرنا} بتلك الزينة.
ولما كان التقدير: فغفل، لأن عظمتنا لا يغلبها شيء فلا يكون إلا ما نريد، عطف على فعل المطاوعة قوله تعالى: {واتبع هواه} بالميل إلى ما استدرجناه به منها والأنفة من مجالسة أوليائنا الذين أكرمناهم بالحماية منها لأن ذكر الله مطلع الأنوار، فإذا أفلت الأنوار تراكمت الظلمة فجاء الهوى فأقبل على الخلق {وكان أمره فرطاً} أي متجاوزاً للحد مسرفاً فيه متقدماً على الحق، فيكون الحق منبوذاً به وراء الظهر مفرطاً فيه بالتقصير فإن ربك سبحانه سينجي أتباعك على ضعفهم منهم كما أنجى أصحاب الكهف، ويزيدك بأن يعليهم عليهم ويدفع الجبابرة في أيديهم لأنهم مقبلون على الله معرضون عما سواه، وغيرهم مقبل على غيره معرض عنه.


ولما رغبه في أوليائه، وزهده في أعدائه، ترضية بقدره بعد أن قص الحق من قصة أهل الكهف للمتعنتين، علمه ما يقول لهم على وجه يعمهم ويعم غيرهم ويعم القصة وغيرها فقال تعالى مهدداً ومتوعداً- كما نقل عن علي رضي الله عنه وكذا عن غيره: {وقل} أي لهم ولغيرهم: هذا الذي جئتكم به من هذا الوحي العربي العري عن العوج، الظاهر الإعجاز، الباهر الحجج {الحق} كائناً {من ربكم} المحسن إليكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين، والإعراض عمن سواهم وغير ذلك، لا ما قلتموه في أمرهم، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ {فمن شاء} أي منكم ومن غيركم {فليؤمن} بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم، فهو مقبول مرغوب فيه وإن كان فقيراً زريّ الهيئة ولم ينفع إلا نفسه {ومن شاء} منكم ومن غيركم {فليكفر} فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة، وإن تعاظمت هيبته لما اشتد من أذاه، وأفرط من ظلمه، وسنشفي قلوب المؤمنين في الدارين بالانتقام منه، والآية دالة على أن كلاًّ من الكفر والإيمان موقوف على المشيئة بخلق الله تعالى، لأن الفعل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وذلك القصد إن كان بقصد آخر يتقدمه لزم أن يكون كل قصد مسبوقاً بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال، فوجب أن تنتهي تلك القصود إلى قصد يخلقه الله في العبد على سبيل الضرورة يجب به الفعل، فإلإنسان مضطر في صورة مختار، فلا دليل للمعتزلة في هذه الآية.
ولما هدد السامعين بما حاصله: ليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غداً عند الله تعالى، اتبع هذا التهديد تفصيلاً لما أعد للفريقين من الوعد والوعيد لفاً ونشراً مشوشاً- بما يليق بهذا الأسلوب المشير إلى أنه لا كفوء له من نون العظمة فقال تعالى: {إنا اعتدنا} أي هيأنا بما لنا من العظمة تهيئة قريبة جداً، وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير {للظالمين} أي لمن لم يؤمن، ولكنه وصف إشارة إلى تعليق الحكم به {ناراً} جعلناها معدة لهم {أحاط بهم} كلهم {سرادقها} أي حائطها الذي يدار حولها كما يدار الحظير حول الخيمة من جميع الجوانب.
ولما كان المحرور شديد الطلب للماء قال تعالى: {وإن يستغيثوا} من حر النار فيطلبوا الغيث- وهو ماء المطر- والغوث بإحضاره لهم؛ وشاكل استغاثتهم تهكماً بهم فقال تعالى: {يغاثوا بماء} ليس كالماء الذي قدمنا الإشارة إلى أنا نحيي به الأرض بعد صيرورتها صعيداً جرزاً، بل {كالمهل} وهو القطران الرقيق وما ذاب في صفر أو حديد والزيت أو درديّه- قاله في القاموس.
وشبهه به من أجل تناهي الحر مع كونه ثخيناً، وبين وجه الشبه بقوله تعالى: {يشوي الوجوه} أي إذا قرب إلى الفم فكيف بالفم والجوف! ثم وصل بذلك ذمه فقال تعالى: {بئس الشراب} أي هو، فإنه أسود منتن غليظ حار، وعطف عليه ذم النار المعدة لهم فقال تعالى: {وساءت مرتفقاً} أي منزلاً يعد للارتفاق، فكأنه قيل: فما لمن آمن؟ فقال تعالى: {إن الذين ءامنوا} ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر، عطف عليه ما يحقق ذلك فقال تعالى: {وعملوا الصالحات} ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى: {إنا لا نضيع} أي بوجه من الوجوه لما يقتضيه عظمتنا {أجر من أحسن عملاً} مشيراً بإظهار ضميرهم إلى أنهم استحقوا بذلك الوصف بالإحسان، فكأنه قيل: فما لهم؟ فقال مفصلاً لما أجمل من وعدهم: {أولئك} أي العالو الرتبة {لهم جنات عدن} أي إقامة، فكأنه قيل: ما لهم فيها؟ فقيل: {تجري من تحتهم} أي تحت منازلهم {الأنهار} فكأنه قيل: ثم ماذا؟ فقيل: {يحلون فيها} وبنى الفعل للمجهول لأن القصد وجود التحلية، وهي لعزتها إنما يؤتى بها من الغيب فضلاً من الله تعالى.
ولما كان الله أعظم من كل شيء، فكانت نعمه لا يحصى نوع منها، قال تعالى مبعضاً: {من أساور} جمع أسورة جمع سوار، كما يلبس ذلك ملوك الدنيا من جبابرة الكفرة في بعض الأقاليم كأهل فارس. ولما كان لمقصودها نظر إلى التفضيل والفعل بالاختيار على الإطلاق، وقع الترغيب في طاعته بما هو أعلى من الفضة فقال مبعضاً أيضاً: {من ذهب} أي ذهب هو في غاية العظمة. ولما كان اللباس جزاء العمل وكان موجوداً عندهم، أسند الفعل إليهم فقال تعالى: {ويلبسون ثياباً خضراً} ثم وصفها بقوله تعالى: {من سندس} وهو ما رقّ من الديباج {وإستبرق} وهو ما غلظ منه؛ ثم استأنف الوصف عن حال جلوسهم فيها بأنه جلوس الملوك المتمكنين من النعيم فقال تعالى: {متكئين فيها} أي لأنهم في غاية الراحة {على الأرائك} أي الأسرع عليها الحجل، ثم مدح هذا فقال تعالى: {نعم الثواب} أي هو لو لم يكن لها وصف غير ما سمعتم فكيف ولها من الأوصاف ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى! وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: {وحسنت} أي الجنة كلها، وميز ذلك بقوله تعالى: {مرتفقاً}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8